قد يكون من الصعب تحديد تاريخ محدد لبدء الممارسة الطبية في التاريخ ، وذلك للضبابية التي تعتري التاريخ البشري عموماً من جهة ، ولاختلاط العمل الطبي بالغيبيات والماورائيات من جهةٍ أخرى . غير انني اجرؤ على القول انها بدأت مع وجود الانسان على الارض وذلك لكون الاستطباب و مكافحة المرض حاجة فطرية جبلت عليها المخلوقات لاشباع غريزة البقاء ، تماما كحاجتها الى الطعام والشراب اللذين بهما يقوم الأود ،لذا فقد احتاجت النفس البشرية الى الاستطباب للحفاظ على الصحة من اجل القيام باعباء الحياة بكفاءة.
ويشيرالمؤرخون ان الكائن البشري بدأ التعلم من كائنات بيئته ،ويذكر بعضهم أن المداواة بالأعشاب بدأت مع الحيوان . فتعلم الإنسان منها استخدام ما يخفف من الأعراض المرضية ، فعندما لاحظ أن الكلاب مثلا عندما كانت تعتل صحتها كانت تأكل أعشابا فتهدأ وتشفى ، وكانت القطط عندما تشعر بآلام بمعدتها تبحث عن نبات النعناع وتأكله ليساعدها على طرد الغازات من بطونها ، فاكتشف الإنسان بالخبرة والتجربة أن النعناع يحتوي على زيوت طيّارة طاردة للرياح ، فبدأ في إنتقاء دوائه من الأعشاب . وعبر السنين تراكمت لديه الخبرة العلاجية مستعينا بما يحيط به في بيئته.وقد ذكر المؤرخ الطبي العربي الكبير ( إبن أبي أصيبعة) العديد من الطرائف في هذا المجال في كتابه العظيم ( عيون الأنباء في طبقات الأطباء) وقد تكون قصة ابني ادم –من وجهة نظري – خير مصداق لذلك حين ضاق قابيل ذرعا بجثة هابيل بعد قتله حتى رأى الغراب يدفن قتيله كما جاء في القران الكريم في قوله تعالى:
(فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فاصبح من الخاسرين*فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوءة اخيه قال ياويلتى اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فاواري سوءة اخي فاصبح من النادمين)
ففي هذه الايات عبرة ودليل على تعلم الانسان الاول من بيئته وافراد بيئته من كائنات حية، لا سيما وان الحيوان يدرك بالغريزة ما لا يدركه الانسان الا بالتعلم الناجم عن المشاهدة والممارسة والخبرة.
وبناء عليه كانت هناك مصادر قديمة لدى كل شعوب العالم القديم للأدوية المفردة: النباتية، والحيوانية، والمعدنية منذ فجر التاريخ في المجتمعات البدائية و في الأدغال . فقد حاول الإنسان عبر تاريخه معالجة أمراضه بما تجود به الطبيعة من عشب أو نبات أو حجر أو معدن أو عظم حيوان كقرن غزال أو مخلب وحش. فبدأت قصة التداوي بدوافع غريزية في بلاد الحضارات القديمة كالصين ومصر القديمة وبابل والإغريق والبطالمة والرومان والعرب عبر ممارسات بدائية كوضع عصير أوراق النباتات فوق الجروح للمعالجتها .واجمل ما يصف ذلك قول الطبيب العربي (ابن جلجل الاندلسي ) اذ قال فاللّه قد خلق الشفاء وبثه فيما انبتته الأرض واستقر عليها من الحيوان المشاء والسابح في الماء والمنساب وما يكون تحت الأرض في جوفها من المعدنية كل ذلك فيه شفاء ورحمة )
كما وبدأت المحاولات الطفيفة لعلاج الجراح مع انخراط الانسان في دوامة صراع البقاء عبر اولى الحروب التي خاضها الجنس البشري مع حيوانات بيئته لغرض الصيد او الدفاع عن النفس ، او مع ابناء جلدته لللتنافس على مصادر المياه و منابع العيش.
ثم تطورت الممارسة الطبية عبر الاجيال ، وزادها ثراء التبادل الحضاري بين الامم ، وتطور الجنس البشري المطرد في جدلية السعي نحو الافضل منذ فجر التاريخ الى يومنا هذا.وقد القت الثورة الصناعية في اوروبا ظلالها على الحقل الطبي فتطورت وسائل التشخيص والعلاج والصناعات الدوائية تطورا عظيما لا يزال في حالة اطراد إلى يومنا هذا.
وعلى رأي احد اساتذتنا الافاضل فان تاريخ الطب الحديث مر بثورات ثلاث : اكتشاف المجهر، واكتشاف المضادات الحيوية ثم دخول الكمبيوتر الى الحقل الطبي.ويمكنني هنا أن الضيف أن فك شيفرة الجينوم البشري تشكل أيضاً ثورة هامة في تاريخ الطب .
والهدف من استعراض التراث الطبي هو التعرف على التسلسل و التدرج في نضوج المعرفة والممارسة الطبيتين ،وارتباطها بالتطور الحضاري الشامل وتأثير الأمم على بعضها البعض ، وقيمة التبادل الحضاري ، وليس الحكم على تلك الممارسات او تقييمها، فهي جديرة بالاحترام والتقدير كمجهود انساني بذل اساسا لرفعة الانسان و مجده، وان سقط بعضها بالتقادم.
كما ونسعى من استعراض حياة بعض مشاهير الاطباء الى خلق انموذج القدوة لدى طلبتنا الاعزاء ما من شأنه شحذ طموحهم،ودفعهم للعطاء اثناء ممارستهم لاصعب الحرف واكثرها امانة، وكذلك اثراء ثقافتهم العامة التي هي جزء مهم من شخصية الطبيب لا تقل اهمية عن ثراء معرفته الطبية و خبرته العملية.
وفي الختام أجد من الضرورة بمكان التنويه أن النقص من طبائع البشر فان وجد القارئ في هذا الكتاب ما يفي بالغرض فليحمد الله وليخصني بدعائه ، وان وجد نقصا ففي الصدر اتساع لتقبل النقد البناء الدافع لمزيد من التطوير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق